تاريخ هذا الكتاب
إن تاريخ كتاب النبي هذا طريف فقد قضى جبران جانبأ من مرحلة الطفولة في أمريكا مع أمه وأخيه وأختيه، ولما بلغ الرابعة عشر أصر على العودة إلى عالم الادب العربي والثقافة العربية في بيروت لإتمام دراسته.
وبعد مرور عامين على وصوله إلى بيروت كتب أول مسودة لكتاب " النبي " باللغة العربية ، ولكنه وضعه جانبأ لأنه كان يدرك أنها فاكهة فجة ، وبعد ثلاث سنوات اتم مرحلته الدراسية ، ونزح الى باريس ، حيث طاب له المقام في بيئة الفن والصداقة والثقافة ، وكان " النبي " من الأشياء التي يحرص على الاحتفاظ بها وفي سنة العشرين من عمره استدعي الى بوسطن على عجل من باريس لمرض أمه في أمريكا ، وهناك قرأ على مسامعها ما كتبه عن " النبي " وكانت أمه حكيمة في شبابه ، كما كانت حكيمة في طفولته . فأصغت إلى ما دبجته يراعة الفتى ، وقالت له : عظيم يا بني ، ولكن لم يئن الاوان لنشره بعد . ضعه جانبأ وكان الفتى مطيعأ فوضعه جانبأ .
وفي الخامسة والعشرين من عمره كان مرة أخرى في باريس وهناك أعاد كتابة " النبي " بالعربية كما كان من قبل ثم قرأه لنفسه ، لأن أمه لم تكن عند ذاك على قيد الحياة ، لتستمع له وسرعان ما طوى المسودة قائلأ: " عظيم يا بني " ولكن لم يئن الاوان بعد ، ضعه جانبأ ومرة أخرى وضع جبران قصة " النبي " جانبأ. الى ان امضت عشر سنوات ، قضى منها سنتين في باريس ، إتصل خلالهما بشخصيات عظيمة وبعدها سافر إلى امريكا واتخذ نيويورك مقرأ له وهنا أعاد كتابة النبي باللغة الانكليزية ، بصورة مبتكرة لم تكن ترجمت عن العربية ، وقد أعاد كتابته خمس مرات في خمس سنوات متواليات كاملة ، قبل ان يوضع في يد النشر ، وكان يبدأ كل كراسة بعبارة يكتبها بالعربية ، ومما كتبه في آخر كراسة ( اللهم أعني على التعبير عن الحق بما يسطره قلمي من آيات الجمال في هذة الكراسة ) وقبل ذلك كتب على كراسة ( أيها الاخ إن المشكلة التي آلمتك قد آلمتني). تتمة لاحقأ
كلمة المترجم
لو قصرنا الدين على أثوابه الخارجية ، لكان جبران كافرأ وكان مترجم هذا الكتاب مخطئأ في نقله الى العربية ، وان كان ناقل الكفر ليس بكافر . ولكن لو نظرنا في الدين إلى جوهره دون قشوره ، لرئينا أن جبران في طليعة المؤمنين العاملين على نشر الحقيقة الأزليه مجردة عن زخرف الوهم وبهرحة الرسم ، متجلية بجلباب فتان من الفن الخالد .
في العقائد والمذاهب المنتشرة في العالم اليوم ، كما في جميع نظمه الاجتماعية ، قشور يابسة ممتلئة من سوس الماضي ، تقضي على ما بقي من اللباب في هذة العقائد والمذاهب فهنالك انصار الحرب القاتل الذين يؤلفون الأكثرية الساحقة بين ذوي الشرائع يحاربون الروح المجددة بكل ما لديهم من آلات الحرب والشر التي ورثوها عن جدودهم الغير على فريسيه الناموس والأنبياء هؤلاء هم اولاد ظلمة الأمس يقضون أعمارهم متمسكين بأهداب الشريعة الصماء ، وإن كانت الشريعة تقتل أرواحهم وتعمل على قهرهم وجمودهم ومذلتهم ، وهنالك انصار الروح المحيية الذين يؤلفون الأقلية الصغرى في الناس يحاربون جيوش الظلمة ويحسرون القناع عن وجه الحقيقة بكل ما أوتوا من حكمة ومعرفة . هؤلاء هم أبناء ثورة الغد يحترمون الشريعة بمقدار ما تحترم الشريعة الحياة التي في قلوبهم . ويضربون بها عرض الحائط اذا كانت تغل إرادتهم وتثقل كاهلهم بنير الجهل والغباوة ... تتمة لاحقأ منقول
ب المجدد ، الذي دعي نابغة المهجر ورسول الشرق إلى الغرب ، جبران خليل جبران ، مؤلف هذا الكتاب هو في مقدمة أنصار الروح هؤلاء .
ولذلك يسرني أن أقدم إلى قراء العربية المفكرين خلاصة أفكاره وآرائه في أسرار الحياة من المهد الى اللحد ، مجموعة في هذا الكتاب الصغير الطافح بثمرات نبوغه وعبقريته .
أجل إن في أعماق جبران نفسأ تطمح إلى الجديد المفيد ، وتنفر من كل تقليد بليد فهو لا يكتب إلا ما يعتقده حقأ وصوابأ ولذلك تأتي كتابته مرآة نقية تعكس شخصية كبيرة تأبى أن تتقيد بقيود الماضي أو أن تلبس حلة غير حلتها بيد أن هذه الشخصية الممتازة قد ظهرت في أوج عظمتها وكمال روحانياتها في هذا الكتاب الذي أودعه المؤلف خلاصة آرائه في الحب ، والزواج ، والاولاد، والبيوت ، والثياب والبيع ، والشراء ، والجرائم ، والعقوبات ، والحرية ، والشرائع ، والعقل ، والهوى ، والإثم ، والصداقة ، والدين ، والموت ، وغير ذلك على لسان نبي سماه المصطفى ، وكأننا بالمؤلف قضى حياته يستعد لإخراج هذا السفر النفيس ، فإن كتبه السابقة من عربية وانكليزية ليست سوى مقدمات لما في هذا الكتاب من حكمة وفلسفة ، وشعر ، وفن ، فلا ترى فيه جبران الثائر الذي تراه في العواصف والارواح المتمردة ، ولا جبران الشاعر الذي تراه في " آلهة الأرض " " أيها الليل " وغيرهما ولا جبران المتألم في " لكم لبنانكم ولي لبناني " وفي صورة " وجه أمي وجه أمتي " ولا جبران المعلم الحكيم في " القشور واللباب " و "المجنون " و " والسابق " ولا جبران الرسام الرمزي في جميع ما أبرزته ريشته الساحرة ، ولا جبران الخيالي في بين ليل وصباح وفي حفار القبور ، بل ترى في هذا الكتاب جبران الذي هو من هذة العناصر جميعها بل هو خلاصتها المختارة فإنك لا تقرأ فصلأ من فصوله إلا وترى أمامك حكمة من خيال وفلسفة في بلاغة وجمال .
قال أحد كبار المفكرين إن حبران حدث في العمر ولكنه شيخ في الحياة ، فهو كالأحداث تواق للجمال وكالشيوخ متعمق للحكمة والحقيقة . فكأننا به يقول : سأدرك جميع الحقائق ، سأعرف ما لا يوجد ناقصأ في الموازين سأبكي مع الباكين ، وسأضحك مع الضاحكين ، سأسيح في جميع الفصول ، وحيثما سرت سأهتدي الى محبتي . وقال آخر ليس في حياة جبران من اثر للتقليد أو الجمود ، فلا هو بالمتفائل ولا بالمتشائم ، ولا هو بالكاهن ولا بالكافر بيد أنه بالحقيقة نبي بعيد النظر مترنم أبدأ بأناشيد الفن الخالدة ، ولعله يرى بعينيه الشرقيتين ما لا تتاح لنا رؤيته نحن أبناء الغرب ، ولا غرو فإن معلمي الإنسانية يجيئون دائما من الشرق !
وقال أديب آخر : إن جميع كتابات جبران تدعوا الى التفكير العميق بل ترغم قارئها على إعمال ذهنه وعقله فإن كنت تخاف أن تفكر فالأجدر بك ألا تقرأ جبران .
وقال غيره : نحن نعتقد أن مؤلفات جبران بستان خالد ممتلئ بأثمار الغبطة والبهجة . بل هو جنة نور عجيب لا يعثر فيها حتى أعداء الحقيقة أنفسهم ،
وقال آخر إن جبران قد اقترب من الغرب وعلى شفتيه ابتسامة الشرق الجميلة ، يحمل عطية ثمينة في صدره لكي يقدمها الى الغرب فقد جاء كالمسيح يطفح قلبه محبة
وقال أوغست رودين أعظم نحاتي العصر الحاضر بعد أن عرف جبران عندما كان يعرض صورة في باريس :< أن العالم يجب أن ينتظر كثيرأ من شاعر لبنان ونابغته جبران فهو وليم بلايك القرن العشرين! >
هذا قليل من كثير مما لدينا من أقوال علماء الغرب في " النبي " رأينا أن نثبته لأبناء الشرق لكي يعرفوا ان الغرب يقدر النابهين من رجال الشرق قدرهم وينزلهم منزلتهم من الاعتبار . وربما كانت هذة أبرز ميزات الغرب على الشرق في استثمار مواهب الناس.
ولا بد لنا قبل الفراغ من كلمتنا هذة أن نلفت انظار القراء الكرام الى الملاحظات التالية
1_ جبران يصور فكره قبل ان يعبر عنه بالألفاظ لأنه من نوابغ المصورين، لذلك فليعن القارئ بدرس صورة كل فكر من أفكار المؤلف قبل ان يدرس الألفاظ التي تعبر عنها
2_ جبران مفكر عميق وشاعر غير مخير في شاعريته فكل عبارة تخرج من شفتيه ملؤها الفكر والشعر ، فإذا لم تشاطر جبران شعوره ، وتصبغ فكرك بصبغة فكره فعبثأ أن ترافقه في سياحاته .
3_ ليس جبران كافرأ بل هو مؤمن صادق في دينه . وهو يعتقد أن الدين كل ما في الحياة من الأعمال والتأملات ، وربما كان الفرق بين دينه ودين الذين يرشوقونه ( بالجرم الثقيل ) كالفرق بين دين يسوع ودين الكتبة والفريسيين المرائين الذين كانوا يقولون إن فيه شيطانأ.
4_ رأينا ان نثبت في ترجمة " النبي " العربية الرسوم الاثني عشر التي رسمها المؤلف للأصل الانكليزي ولله هذة الرسوم البديعة التي لا بد منها لإكمال الكتاب فالصورة الأخيرة من أروع ما تصور به القوة المدبرة التي وراء هذا الكون . يد تعمل ، وبصيرة ترى ، وحولها العوالم صنعها في حلقات متراكزة ، ومع أن هذا النوع من التصوير الرمزي جديد في العالم العربي فإنه أجمل ما تزين به المتاحف ودور العلم وبيوت العبادات في العالم المتمدن ، لذلك فلينظر القارئ إلى الحقيقة التي يرمز اليها كل رسم من هذه الرسوم قبل أن يقصر نظره على الرسم نفسه .
5_ ليس " النبي " رواية أو حكاية يكفي أن يمر بها القارئ ليدرك فحواها ، ويفهم الحقيقة المنطوية عليها ، ولكنه دائرة علم ، وأدب ، وفن ، وحكمة ، وفلسفة ، فلا تترك عبارة من عباراته قبل ان تقف على الحقيقة التي وراءها . وتتفهم العقيدة الجديدة التي تحملها إليك فإن جاءت مثبتة لما لديك فاقتبلها واحتفظ بها ، وإن جاءت غريبة عما عرفته وألفته فلا ترفضها بل ضعها في دائرة من ذاكرتك ثم عد اليها بعد حين متذكرا أن الذين اضطهدوا غاليلو واحتقروا آراءه الغريبة ما كانوا ليضهدوه لو عاد وعادوا الى الحياة اليوم !
وظل المصطفى ، المختار الحبيب ، الذي كان فجرأ لذاته ، يترقب عودة سفينته في مدينة اورفيليس اثنتي عشر سنة ليركبها عائدأ إلى الجزيرة التي ولد فيها.
وفي السنة الثانية عشر ، في اليوم السابع من إيلول شهر الحصاد ، صعد الى قنة إحدى التلال القائمة وراء جدران المدينة وألقى نظرة عميقة الى البحر ، فرأى سفينته تمخر عباب البحر مغمورة بالضباب .
فاختلج قلبه في أعماقه ، وطارت روحه فوق البحر فرحأ ، فأغمض عينيه ، ثم صلى في سكون نفسه .
غير أنه ما هبط عن التلة حتى فاجأته كآبة صماء ، فقال في قلبه :
كيف أنصرف من هذة المدينة بسلام ، وأسير في البحر من غير كآبة ؟ كلا ! أنني لن أبرح هذة الأرض حتى تسيل الدماء من جراح روحي .
فقد كانت أيام كآبتي طويلة ضمن جدرانها ، وأطول منها كانت ليالي وحدتي وأنفرادي ، ومن ذا يستطيع أن ينفصل عن كآبته ووحدته من غير أن يتألم في قلبه ؟
كثيرة هي أجزاء روحي التي فرقتها في هذة الشوارع : وكثير هم أبناء حنيني الذين يمشون عراة بين التلال ، فكيف أفارقهم من غير أن أثقل كاهلي وأضغط روحي !
فليس ما أفارقه بالثوب الذي أنزعه عني اليوم ثم أرتديه غدأ ، بل هو بشرة أمزقها بيدي .
كلا، وليس فكرأ أخلفه ورائي ، بل هو قلب جملته مجاعتي وجعله عطشي رقيقأ خفوق