قصة حدثت معى تركت فى نفسى أثراً كبيراً .
وقدمت لى أسلوباً أساسياً فى معاملتى للأطفال . وفى الواقع أعطتني درساً عملياً نافعاً . فى أحد الأيام زارتني أسرة ومعها طفلها . وأرادت الأمم أن تقدم لى مهارة الطفل فى الحفظ ، فظللت تحث الطفل وتقول له :
- قل لسيدنا " أبانا الذى " ... قل له " أجيوس .. " . أما الطفل فنظر إلى فى براءة وفرح ، وقال لى :
- - شايف الجزمة الحمرة الجديدة بتاعتى ؟
- كان الطفل سعيدا جداً حذائه الجديد الأحمر ، وأفكاره كلها مركزة فيه ، ويريد أن يشاركه الكل فى سعادته ، بأن يلفت أنظارهم إلى هذا الحذاء الجديد الذى يلبسه ... بينما الأم تريد ا تنقله إلى جو آخر روحى لم يصل إليه بعد ...!
- ومن ذلك الحين ، كنت كلما أرى طفلاً : أمتدح أولاً ملابسه الجميلة ، وما عليها من أشكال ورسوم ، أو أمتدح ألوانها . فإن كانت بنتاً أمتدح الحلق الذى تلبسه ،أو الفيونكا التى فى شعرها ، أو اللعبة التى فى يديها .... أو أمتدح الأطفال عموماً بأنهم " حلوين " و " كتاكيت " ولطفاً ... ولا مانع من بعض الشوكولاته أو الملبس أو الهدايا أياً كانت ...
وبعد إشباعهم بهذا الرضى ، ندخل فى " أبانا الذى " وفى " آجيوس " .
تأتى مراجعة المحفوظات حينئذ فى موضعها ... بعد أن يكون الطفل قد شبع حناناً وحباً ، واطمئن إلى محبة من يكلمه ، واطمئن متجهة رضاه عن نفسه ، ورضى الأخرين عنه ... أما أن نبدأ بسؤاله عن معلوماته ، كأننا فى موقف " المفتش " أو الممتحن ، فهذا تصرف يأتى فى غير وقته . وقد قال الحكيم " تفاحة من ذهب فى مصوغ من فضة ، كلمة مقولة فى وقتها " ( أم25 : 11 ) .
[ أنظر القصيدة ص77 ، 78 ]
الولد فى هذه السن ، لا يعرف الحب الفلسفى المجرد . إنما الحب دليله العطاء .
الله يحبنا ، فيعطينا كل شئ ... حتى بابا وماما ، هما عطية من الله لنا . وإنما تعبر عن محبتك للطفل ، بالعطاء أيضاً .
والعطاء يتنوع حسب تفضيل الطفل .
نعطية ما يحبه ، مع التنويع فيما نعطى ... قد نعطيه بعض الحلوى ، أو بعض اللعب ، أو صورة دينية ، أو أيقونة أو صليباً ... أو على الأقل نعطيه ابتسامة وحناناً ومداعبة وتشجيعاً ... كما يفرح الطفل بعطائنا له ، وينبغى أيضاً أن :
نعلم الطفل أيضاً أن يعطى ...
فلو كانت كلها أخذاً ، لا يكون هذا صاحاً له ... لذلك نحن نعلمه أولاً أن يعطى ، دون أن يؤثر ذلك عليه ... وهناك أمثلة كثيرة لذلك :
Vإذا حضر ضيوف مثلاً ، بدلاً من أن نوزع عليهم بأنفسناً قطعاً من الحلوى ، نعطيه هو ليوزع . نقول له : خذ إعط بأنفسنا قطعاً من الحلوى ، نعطيه هو ليوزع . نقول له : خذ إعط هذا لفلان ، وإعط هذا لفلانة .. وسوف يسر بذلك ، إذ يشعر أنه المضيف الذى يعطى .
Vنفس التدريب بصورة مصغرة على مائدة الطعام ...
Vكذلك يمكن أن ندربه على هذا العطاء فى التعامل مع أخوته الأصغر أو الأكبر .
Vأو تقول له الأم . نحجز هذا الشئ لبابا حينما يحضر ، وأنت تعطيه بنفسك . وسيفرح بك ويشكرك .
Vنمتدحه فى كل مرة يعطى فيها لغيرة ، ونشجعه بكافة ألوان التشجيع .
Vكذلك يمكن أن نحكى له قصصاً من العطاء وهي قصص كثيرة ، سواء من الكتاب المقدس ، أو حياة القديسين ، أو القصص الاجتماعية .
اتذكر قصة حدثت معي سنة 1967 م .
كانت الكلية الاكليريكية تجتاز ضائقة مالية شديدة جداً ، مما أدى إلى أن مدير الديوان البابوى أرسل مجموعة من الخطابات يعلن فيها وقف الصرف عليها وعلى كل المعاهد الدينية ... وأقمنا قداسات من أجل هذا الأمر . وفى آخر أحد القداسات ، تقدم بعض الأحباء ، يقدمون تبرعات للصرف على الاكليريكية . ورأى أحد الأطفال كل هؤلاء يتقدمون ويعطون من عندهم شيئاً ... فجاء هذا الطفل إلى ، ووضع يده فى جيبه ، وقدم لى ملبساية ... وتكرر هذا الفصل وقدم من طفل آخر ، عن حب وليس عن تقليد لغيره ... جاءنى فى محبة وقدم لى ملبسة مما فى يده ، مع عبارة حب رقيقة ...
قوة الحفظ
الطفل فى سن الطفولة سريع الحفظ ، وله ذاكرة قوية جداً .
يكفى أنها ذاكرة جديدة لم تمتلئ بعد ... مثل ذاكرة كومبيوتر يمكن أن تسع خمسين ألف كلمة ، ولم تسجل فيها سوى مائة كلمة فقط . وكلما كبر الطفل ، واختلط بالمجتمع وسجل منه ألفاظاً وجملاً . ودخل إلى المدرسة ، وأضيفت إلى ذهنه وذاكرته معلومات من شتى العلوم ، وألفاظ من لغات أخرى أيضاً ... حينئذ لا تصبح الذاكرة فى تلك السن الناضجة مستعدة لتقبل كل شئ ، وقد تنسى ... بعكس الطفل يولد بذاكرة بكر ...
وكما قال أحد علماء التربية : إن الطفل فى السنوات الخمس الأولى من عمره يحفظ قاموساً
ذلك لأنه يولد ولا يعرف لفظاً واحداً من اللغة . ثم يتعلم ويحفظ كل ألفاظ التخاطب ومسميات الأشياء التى أمامه . فلننتهر نحن هذه الموهبة التى فيها لكى نجعله يحفظ ما يفيده .
نجعله يحفظ أيات وتراتيلاً وألحاناً .
ونضيف إلى ذاكرته قصصاً من الكتاب والقديسين .
نجعله يحفظ صلوات ، وإن كان لا يفهمها . إن وقت الفهم والتأمل سيأتي فيما بعد . فلا نفقد سن الحفظ دون أن نستغلها . الأطفال نحفظهم قانون الإيمان ولا يهمنا أنهم لا يفهمونه ونحفظهم " أبانا الذى " وبعض صلوات أخرى . ونترك الفهم إلى مراحل النضوج المقبلة .
إن مدرس مدارس الأحد الذى يهمل تحفيظ الأطفال ، إنما يضيع عليهم ميزة تلك المرحلة من عمرهم .
ونفس الحكم نقوله للآباء والأمهات الذين يهملون تحفيظ أولادهم . وينسون الوصية التى قال فيها الرب ولتكن هذه الكلمات التى أنا أوصيك بها اليوم على قلبك . وقصها على أولادك ، ويتكلم بها حين تجلس فى بيتك ... " ( تث6 : 6 ، 7 ) .
وثقوا جميعاً أنكم إن لم تملأوا ذاكرة الأطفال بما يفيد ، فسوف تمتلئ بأشياء أخرى .
إن لم تمتلئ بالتراتيل والألحان ، فسوف تمتلئ بالأناشيد والأغاني من مصادر أخرى ...
وإن لم تمتلئ بقصص القديسين وشخصيات الكتاب وقصص الفضيلة ، فسوف تمتلئ بتفاهات شتى ، وربما بأشياء ضارة .
ليتنا نضع برنامجاً للحفظ ، خاصاً بالأطفال ، سواء للبيوت ، أو للتربية الكنيسة .
ويمكن تعليق آيات فى براويز داخل بيوتنا ، ليحفظها الأطفال ، ويحفظها الكبار معهم . ويصبح وجود طفل فى البيت بركة روحية لكل أفراد الأسرة . بسببه يحفظون الآيات والتراتيل ، وبسببه يحترسون فى الكلام وفى استخدام الألفاظ اللائقة وينمون معه روحياً ، إن لم يكونوا قد نموا من قبل ...